نشرت جريدة الاعتدال هذه المقالة (يوم الجمعة بتاريخ 22/صفر/1412هـ الموافق: 21/آب/1992م العدد 169) لفضيلة الشيخ عبد الهادي الخرسة حفظه الله.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ على سيدنا محمد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى جميع إخوانه الأنبياء والمرسلين وآلهم وأصحابهم ومن سار على نهجهم واتبع هديهم إلى يوم الدين وبعد:
فمن المعلوم لدى الباحثين في علوم التشريع أن مقومات شخصية الإنسان المسلم في كل زمان ومكان وأياً كانت لغة العصر الذي يعيش فيه ثلاثة أشياء، العقيدة والفكر والسلوك.
وأنه يستمد فكره من عقيدته خلافاً للمبادئ الوضعية والتي تستمد فيها العقائد من أفكار واضعيها ثم تنعكس تلك الأفكار على سلوك الفرد ومنه إلى المجتمع صحة أو فسادا.
وهنا لا بد أن نعلم أن أي خلل في فهم قاعدة من قواعد العقائد على غير وجهها الصحيح أو الجهل بها سينتج عنه خلل فكري قاصر أو غير موضوعي ثم يتجلى ذلك في السلوك المنحرف.
واضرب مثالا على ذلك بالمقارنة بين مجتمع السلف الصالح الذي استمد فلسفة الحياة من عقيدته بالشكل الصحيح وعلى وجه العموم والشمول لكل جزئية من جزئيات الحياة فظهرت صبغة صبغة الإسلام في كل شيء وكلنا يدرك المعاني العظيمة والتي كانت في النفوس الزكية في ذلك المجتمع من خلال قراءته للتاريخ قراءة موضوعية حرة، إذا كان من أصحاب التحرر العقلي والتجرد الفكري.
أما واقع المسلمين اليوم فعندنا لم يكونوا في مستوى الإسلام العظيم عقيدة وفكرا وسلوكا نرى ما هم عليه من الشتات والضياع فبدلا من أن يستمدوا عقيدتهم من نصوص الكتاب والسنة ويفهم الصحابة والمجتهدين من الفقهاء لتلك النصوص وعلى وجه العموم والشمول لجزئيات أحوالهم رضوا لأنفسهم بالفراغ العقائدي فترتب على ذلك أن ملأه أعداء الإنسان بعقائد زائغة أنتجت فكرا مظلما مقيدا، وبالتالي سلوكا منحرفا، وتتجلى هنا حقيقة ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: «غثاء كغثاء السيل».
وكذلك المجتمعات غير المسلمة عندما استمدت عقيدتها من فكر البشر أمثالهم بقيوده وحدوده المالية فقط نرى ما أنتجه الفراغ الروحي من ويلات اجتماعية تجتاح الدول الكبرى لتعلن عدم صلاحيتها كنظام يضمن طمأنينة الفرد واستمرار المجتمع فصار العالم كله يبحث عن نظام بديل ولا بديل عند البشر فوجب الرجوع إلى هدية السماء إلى الأرض ألا وهي الشريعة الإسلامية السمحة التي منها هذا النص القرآني الكريم: ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11].
هذا النص مشتمل على أعظم قواعد العقيدة التي تبعث في الإنسان إنسانية فتجعله يغير جميع نقائصه ومعايبه ويعالج أمراضه وعلله النفسية ثم ينطلق بعد ذلك إلى المرضى من حوله في المجتمع فيشفيهم من أمراضهم بأدوية سماوية لا أرضية.
فيصبح خليفة في الإنسانية الكاملة للإنسان الكامل محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك كله عندما يؤمن المجتمع كله ممثلا بأفراده وأسره وحكوماته بعقيدة ما ويعرف أسبابها وأهدافها ويتحد كل عضو فيه مع الآخر بفعل تلك الأسباب ولتحقيق تلك الأهداف فهو منتصر ولا بد وسيقطف ثمار انتصاره في آن زمني واحد إن كانت العقيدة مستمدة من فكر بشري.
وسيقطف ثمار انتصاره إلى الأبد إن كانت العقيدة مستمدة من منهج الله سبحانه بشرط أن يبقى كل جيل من الأجيال المتعاقبة على تلك العقيدة وذاك الاتحاد.
وقصص القرآن الكريم عن الأمم السابقة كلها أمثلة غيبية في الماضي على ذلك وواقع في الأمم والشعوب والأحزاب في هذا العصر أمثلة مشهودة في الحاضر والسمتقبل ﴿ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [الحشر: 2]
هذه القاعدة المستفادة من هذا النص هي أن القدر الإلهي الغيبي منه ما هو موقوف على سبب شرعي أو عادي وإن هذا السبب داخل في دائرة الأمر والنهي الصادرين عن هذا الإله العظيم جل جلاله، أي عندما نمتثل أمراً أو نجتنب نهياً يترتب على ذلك قدر يبرزه الحق سبحانه، وهذا القدر منطو على كل ما هو الأكمل والأقوم للفرد والمجتمع وعند ما نعطل أمرا ونرتكب مخالفة يترتب على ذلك عدم بروز القدر بل يوكل الله سبحانه الإنسان إلى نفسه وأبناء جنسه فيكون في ذلك دماره وهلاكه.
ولنسمع إلى قول الله سبحانه: ﴿ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ{48} وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ﴾ [الأنعام: 48-49].
فإذا أردنا أن يرفع الله عنا الذل ويحقق لنا العز الذي حققه لأجدادنا من قبل، علينا أن نبتعد عن أسباب الذل ونلتزم بأسباب العز وإذا أردنا أن يرفع عنا الفقر ويحقق لنا الغنى علينا بالابتعاد عن أسباب ذلك والتزام أسباب هذا وإذا أردنا أن يرفع عنا الهزيمة ويحقق لنا النصر فكذلك.
وهكذا في كل أمرين متضادين لأنه لا بد وأن يتصف الإنسان والمجتمع بأحدهما وكل منهما قدر معلق على أسباب فعليك أن تفعل السبب أو تجتنبه وتنظر بعد ذلك بعين التوكل إلى ما سيبرزه القدر فترضى به وعندها من وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
ففتش أخي في الفرد والمجتمع عن كل خلل أو نقص يعاني منه ذاك الفرد أو المجتمع تجد كامنا من وراثه أمر إلهي معطل أو نهي مرتكب وأنه عندما يفعل ذلك الأمر ويجتنب ذلك النهي يختفي هذا الخلل والنقص ويبرز ويظهر الكمال والنظام في كل منهما.
مثال ذلك في الإنسان: الجوع قدر موقوف على سبب ظاهر وهو عدم الأكل، فعندما يظهر الله فينا قدر الجوع يلزمنا الفرار إلى ما أمرنا به وهو الأكل الذي خلقه هو لنا ونوعه وعدده وحرم منه علينا كل ضار.
فعندما نمتثل أمره فنأكل امتثالا يخلق فينا قدرا يسمى الشبع وجعل لنا فيه سنة وهديا لأن الشيء المحدود بحد عندما يخرج عن حده ينقلب إلى ضده، والشيء النافع عندما نسيء نفعه ضررا.
فعندما امتثلت أمره خلق فيَّ قدره، (وغيرت ما بنفسي فغير هو ما خلقه بي)، وهذا معنى قول أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: (نحن قوم نفر من قدر الله إلى قدر الله)، فنحن مظاهر بروز القدر الغيبي وفي القدر ما هو معلق على سبب شرعي أو عادي فلا يحق لعاقل أن يعطل الأسباب الشرعية والعادية ثم يضع الملامة على دينه أو على ربه كما عليه بعض الجهلة والقاصرين من المسلمين الوراثيين وهذا كله معنى قول علماء العقيدة: (السبب واجب ونفي التأثير عنه واجب) وقولهم: (من نفى الأسباب فقد عطل الحكمة، ومن أثبت لها التأثير فقد أشرك بالله).
ورضي الله عن الإمام جعفر الصادق إذ يقول: (لا يحق لنا أن نعطل ما أراده منا ونحتج عليه بما خلقه فينا). ا.هـ.