كثير ممن يحتفل بالمولد النبوي يحتفلون به بدعوى محبة النبي صلى الله عليه وسلم
وتوقيره وتعظيمه فما مدى صحّـة الدعوى ؟
روى البخاري ومسلمٌ عَنِ ابن عَبّاسٍ ـ رضي الله عنه ـ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَال :
لَوْ يُعْطَى النّاسُ بِدَعْوَاهُمْ , لادّعَى ناسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالهُمْ .
إن كلَّ إنسانٍ يستطيعُ أن يدّعي ما يريد ، وأن يقولَ ما يشاء . غير أن الحقائقَ تكذِّبَ ذلك القولَ أو تصدِّ قُـه .
قال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ : زعم قومٌ أنـهم يحبون اللهَ فابتلاهم الله بهذه الآية .
يعني قوله تعالى ( قل إن كنتم تحبون اللهَ فاتبعوني يحببكم الله ويغفرْ لكم ذنوبكم والله غفور رحيم )
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ : هذه الآيةُ الكريمة حاكمةٌ على كل من ادّعى محبة الله
وهو على غير الطريقة المحمدية فإنه كاذبٌ في دعواه في نفس الأمر حتى يتّبع الشرعَ المحمدي ،
والدينَ النبوي في جميع أقوالِه وأفعالِه .
أولا : يرد هذا السؤال :
هل نحن أكثر حبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة ؟
لقد سطّرَ أصحابُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم أعظمَ ملحمةٍ في الحبِّ .
سطّروها بدمائهم فِداءً لرسولهم صلى الله عليه وسلم .
قدّموا بين يديه صدورهم ونحورهم . فدَوه بكل غالٍ ونفيس .
وصَفَهُم عُروةُ بنُ مسعودٍ ـ وكان مشركا ـ حين كان يرمقُ
أصحابَ النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه ، فقال :
فوالله ما تنخم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نخامـةً إلا وقعتْ في
كفِّ رجلٍ منهم فَدَلَكَ بـها وجهَه وجلدَه ، وإذا أمرهم ابتدروا أمرَه ،
وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتَهم عنده ،
وما يُحِدُّون إليه النظرَ تعظيماً له . ولما رجع عروةُ إلى أصحابه قال :
أي قوم . والله لقد وفَدْتُّ على الملوك ووفَدتُّ على قيصر وكسرى والنجاشي
والله إنْ رأيتُ ملِكاً قط يعظمْه أصحابُه ما يعظمُ أصحابَ
محمد صلى الله عليه وسلم محمدا . رواه البخاري .
وفي الصحيحين من حديث أنسٍ رضيَ اللهُ عنه قال :
لما كان يومَ أحُدٍ انـهزمَ الناسُ عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو طلحةَ
بينَ يدَي النبيّ صلى الله عليه وسلم مُجوّبٌ عليهِ بحجَفةٍ له ،
وكان أبو طلحةَ رجلاً رامياً شديدَ النـزعِ ، كَسَرَ يومَئذ قوسَينِ أو ثلاثاً ،
وكان الرجلُ يَمرُّ معه بجعْبةٍ من النّبل فيقولُ : انْثُرها لأبي طلحةَ .
قال : ويُشرِفُ النبيّ صلى الله عليه وسلم ينظرُ إلى القوم ،
فيقولُ أبو طلحة : بأبي أنتَ وأمي ! لا تُشرفْ يُصيبُكَ سهمٌ من سِهام القوم ،
نَحرِي دُونَ نحرِك . ويومها شُلّتْ يدُ أبي طلحة رضي الله عنه .
تساقط الصحابةُ أمامه الواحدُ تِلو الآخر فداء له صلى الله عليه وسلم ولرسالته .
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أُفـْرِدَ يَوْمَ أُحُدٍ
فِي سَبْعَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَرَجُلَيْنِ مِنْ قُريْشٍ ، فَلَمّا رَهِقُوهُ قَالَ :
مَنْ يَرُدّهُمْ عَنّا وَلَهُ الْجَنّةُ أَوْ هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنّةِ ؟ فَتَقَدّمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ
فَقَاتَلَ حَتّىَ قُتِلَ , ثُمّ رَهِقُوهُ أَيْضاً . فَقَالَ: مَنْ يَرُدّهُمْ عَنّا وَلَهُ الْجَنّةُ أَوْ
هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنّةِ ؟ فَتَقَدّمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتّىَ قُتِلَ ،
فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتّىَ قُتِلَ السّبْعَةُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لِصَاحِبَيْهِ :
مَا أَنْصَفـْـنـَا أَصْحَابَنَا . رواه مسلم .
ومع كلِّ هذا الحب وتلك التضحيات ما كانوا يَغـْـلـُون فيه صلوات الله وسلامه عليه .
فهذا أنسُ بنُ مالكٍ رضي الله عنه يقول :
ما كان شخصٌ أحبُّ إليهم من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم
وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك .
رواه أحمد والترمذي والبخاري في الأدبِ المفردِ بأسانيدَ صحيحة .
لقد زعمَ أقوامٌ أنـهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم مُحِبُّون ، ودعواهم في وادٍ
وأعمالُهم في وادٍ آخر .
شتّان بين مشرِّقٍ ومُغرِّبِ !
إن محبَّتَه صلى الله عليه وسلم إنما تكون بإحياءِ سُنَّتِه .
تكون باقتفاءِ أَثَرِه ، تكون بطاعته فيما أمر .
وليست محبتُه بالتغنِّي بشمائله بقرعَ الدفوفِ ليلةَ مولده ، ولا بالغلو فيه ؛
فهذا معصيةٌ له عليه الصلاة والسلام ، حيث قال :
لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده
فقولوا عبد الله ورسوله . رواه البخاري عن عمر رضي الله عنه .
وإن من الإطراء إضفاء بعض صفات الله عليه صلى الله عليه وسلم ،
ومن ذلك قول القائل :
مالي من ألوذ به ســـــــــواك عند حـدوث الحــادث الـعـــــمـم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلـــم
فهذا إطراء وغلو لا يرضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
بل هو عين إطراء النصارى لعيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام ،
فإن النصارى ادعت في عيسى الألوهية ، وأضافت إليه شيئا
من صفات الله عز وجل ، وهناك من أمة محمد صلى الله عليه وسلم
من فعل كفعل النصارى ، بأن أدعى أن من علومه علم اللوح والقلم ،
ومن جوده الدنيا والآخرة ، وأنه هو الملاذ والملجأ والمستعاذ ،
وكل هذا لا يرضاه صاحب الملة الحنيفية .
جاءه رجل فكلمه فقال ما شاء الله وشئت ، فقال :
ويلك اجعلتني لله عدلا ؟ قل ما شاء الله وحده .
وجاءه أعرابي فقال : يا رسول الله جهدت الأنفس وضاعت العيال
ونهكت الأموال وهلكت الأنعام فاستسق الله لنا فإنا نستشفع بك على الله
ونستشفع بالله عليك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ويحك أتدري ما تقول ؟ وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال :
ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك .
فهذه أمثلة على إنكاره صلى الله عليه وسلم على من جعله لله ندا أو
أضاف إليه شيء من صفات الله ، أو نعته ووصفه بنعوت الله وصفاته .
فمن أحدث في دين رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا
فإنما هو يستدرك على أبي القاسم صلى الله عليه وسلم .
قال الإمام مالك – رحمه الله – :
من ابتدع في الدين بدعة فرآها حسنة فقد اتـّـهم أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ،
فإن الله يقول : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي )
فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا .
ألا وإن مما يُقوّي محبةَ رسولِ الهدى صلى الله عليه وسلم ويزيدها
معرفة كريم خصاله ، وعظيم شمائله ، وهذا لا يَحصُل إلا بقراءة سيرته
ليس في يومٍ من السَّنَةِ فحسْب ، والوقوف عن كَثَبٍ على شمائله ،
فهناك كُتُبٌ خُصَّتْ بِذِكْرِ شمائلِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم وأخلاقِـه .
فرسول الله صلى الله عليه وسلم حاز قَصَبَ السَّبقِ في كل خـُـلـُق فاضل ،
فهو الشُّجاع إذا احمرّت الحَدَق ، وادلهمّت الخطوب
أنت الشّجاع إذا الأبطال ذاهلة والهُنْدُوانيُّ في الأعنـاق والُّلمَـمِ
قال البراء رضي الله عنه :
كنا والله إذا احمر البأس نتقي به ، وإن الشجاع مـنـّا للذي يحاذي به ،
يعني النبي صلى الله عليه وسلم . رواه مسلم
وقال عليّ رضي الله عنه :
كنا إذا احمر البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم
فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه . رواه أحمد وغيره .
أما البراء رضي الله عنه فهو الملقّب بالمَهْلَكَة ،
وأما عليٌّ رضي الله عنه فشجاعتُه أشهرُ من أن تُذْكَر .
وهو صلى الله عليه وسلم الكريم إذا عُـدَّ الكرماء ،
يُعطي عطاء من لا يخشى الفقـر .
أتاه رجلٌ فسأله فأعطاه غَنَماً بين جبلين ، فأتى قومه فقال :
أي قوم أسلموا ، فو الله إن محمدا ليعطي عطاء رجلٍ ما يخاف الفقر .
رواه مسلم من حديث أنس رضي الله عنه .
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجودُ بالخير من الرِّيحِ المرسَلَة ،
وكان أجود ما يكون في رمضان . كما في الصحيحين من حديث ابن عباس
قَدِمَ عليه سبعون ألف درهم ، فقام يَقْسمُها فما ردَّ سائلاً
حتى فرغ منه صلى الله عليه وسلم . رواه أبو الشيخ في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم .
وهو صلى الله عليه وسلم على خُلُقٍ عظيم يُوجِبُ مَحَبَّتَه ، ويَبْعَثُ على توقيره .